وجهات نظر

واشنطن لآل سعود: تغيّروا أو ارحلوا!

الأخبار


نادرة هي المناسبات التي يفصح فيها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، عن مواقف ذات دلالة وشبه صريحة. لكن يبدو أن الهوة الواسعة في جدار العلاقة بين واشنطن والرياض تطلبت قدراً من المكاشفة مع الرأي العام. كان يمكن التباين بين الولايات المتحدة والسعودية أن يبقى حبيس الغرف المغلقة، ومناقشته بين الفرق الدبلوماسية بعيداً عن الإعلام، ولكن مرحلة جديدة ارتسمت معالمها على أنقاض ماضٍ مقطوع الصلة بما يجري حالياً. ما تغيّر في أداء الديبلوماسية السعودية يعود، في الظاهر، إلى قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما، بإلغاء الضربة العسكرية على سوريا في 10 أيلول 2013، حين دخلت الرياض مرحلة تيه سياسي غير مسبوق، فكان التخبط في مقاربة الملفات الإقليمية والدولية سمة الأداء الديبلوماسي السعودي. فما كانت تقرره الرياض ليلاً يمحوه النهار، وكأن رهاناتها جميعاً وضعت في سلة الضربة العسكرية. فإما أن تقع الحرب وفق حسابات الرياض، أو لتذهب كل الرهانات إلى الجحيم. في حقيقة الأمر، إن تخلي أوباما عن الضربة العسكرية كان الاختبار الأخير والصعب في العلاقات الأميركية السعودية، ولكن هناك مواقف سبقت ذلك أوصلت لهذه النتيجة. نتوقف هنا عند الصرخة التي أطلقها الملك عبد الله عشية سقوط حسني مبارك في مصر، حين وجّه من منتجعه في الدار البيضاء في المغرب رسالة إلى أوباما للبحث في «حل مشرّف» لمبارك، وعقدت مباحثات في هذه المدينة في 27 كانون الثاني (يناير) 2011 حضرها سعود الفيصل وغاب عنها الملك المغربي محمد الثاني، ووصفت المفاوضات بين الرياض وواشنطن بالمتشنّجة للغاية. ولفتت صحيفة «وول ستريت جورنال» في 22 كانون الثاني2011 إلى توتّر بين واشنطن ودول خليجية على رأسها السعودية حول مستقبل حسني مبارك. وعاب الملك عبد الله خلال المباحثات مع الجانب الأميركي على واشنطن تخليها عن حليف تاريخي، أي حسني مبارك، بالرغم من الخدمات التي قدّمها للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ومن بين الخدمات التي عدّها الملك: موقف مبارك في الحرب العراقية الإيرانية، والوقوف في وجه ما سماه «الأطماع الإيرانية»، وحرب الخليج الثانية في وجه أطماع صدام حسين. صحيفة «التايمز» البريطانية ذكرت في 10 شباط 2011 أن الملك عبد الله قال لأوباما إن بلاده ستدعم مبارك إن أوقفت الولايات المتحدة المساعدات التي تقدّمها لمصر. وذكرت الصحيفة أن عبد الله أبلغ أوباما في مكالمة هاتفية في 29 كانون الثاني من العام نفسه «ألا يهين مبارك الذي يتعرض لضغط من محتجين مصريين يطالبون بتنحيه عن السلطة على الفور». مذّاك، بدا أن ثمة تبايناً جوهرياً قد طرأ على الرؤى السياسية لدى الجانبين الأميركي والسعودي. وكان على الرياض أن تستقبل الإشارة الأميركية في مرحلة مبكرة بأن من غير الممكن النوم مع الشيطان إلى الأبد، فالمصلحة ستصل في لحظة ما إلى نقطة صدام مع الصداقة. رسائل متكررة بعث بها الأميركيون إلى حلفائهم السعوديين بأن يقوموا بما يجب لتجنيب بلادهم عواقب وخيمة قد لا تقدر واشنطن نفسها على حماية النظام السعودي منها. حدث ما يشبه البروفة لقيامة سياسية في السعودية إبان أزمة الخليج الثانية، حين انفجرت ظاهرة الصحوة السلفية في المملكة، وواجه النظام السعودي تحدي سقوط المشروعية الدينية والسياسية على وقع العرائض التي رفعها إصلاحيون من أطياف اجتماعية وسياسية متنوّعة ومن رجال دين سلفيين ينتمون إلى الصف الثاني في التراتبية الدينية الرسمية إلى الملك فهد، للمطالبة بإصلاحات سياسية ودينية شاملة. أوفدت واشنطن فريقاً مؤلفاً من وزارة الخارجية ولجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس لدراسة أوضاع المملكة، ورفعت تقريراً إلى الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في بداية ولايته الأولى في البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) 1992. تضمن التقرير نصائح قدّمها الأميركيون إلى الملك فهد بإجراء إصلاحات سياسية فاعلة بهدف احتواء الاحتقانات الداخلية. وكما في كل مرة، لجأ السعوديون إلى الأسلوب التقليدي في المراوغة والمكر، وقام الملك فهد في 1 آذار 1992 بإعلان الأنظمة الثلاثة (النظام الأساسي للحكم، نظام الشورى، نظام المناطق)، وهي إصلاحات وصفتها منظمة ميدل إيست ووتش في 1 أيار 1992 بـ«الفارغة» وأن المخرجات النهائية للإصلاح هي أدنى بكثير عن التوقعات. بالرغم من ذلك، بقيت العلاقة بين واشنطن والرياض متماسكة، ومحكومة لمبدأ المصالح المشتركة والخدمات المتبادلة: النفط مقابل الحماية. لم يطرأ ما يعكّر صفو العلاقة، ولم يكن هناك تباين حاد يستوجب استعلان مواقف تشي بانفراط عقد التحالف، أو حتى إصابة بعض حلقاته بالتلف. كانت واشنطن تفيد من ضعف حليفها وحاجته إليها بابتزازه واستغلال مداخيله من النفط في الدورة الرأسمالية الأميركية. وكانت الرياض في المقابل تعمل على احتكار «الفرادة» في الشراكة مع واشنطن وقطع السبيل على أي تقارب يمكن أن يحصل بين واشنطن وأي من عواصم المنطقة، وعلى رأسها طهران، التي تدرك الرياض أن حصول تقارب أميركي إيراني يجعل السعودية أول الخاسرين وأكبرهم. ذاك كان الماضي في فهم إجمالي، لكن ثمة خفايا في العلاقات بين واشنطن والرياض تستحق التأمل طويلاً. بتنا ندرك الآن، في ضوء معطيات جديدة، أن عامل النفط الصخري وتحوّل وجهة واشنطن ناحية الشرق الأقصى هما وراء التصدّع في التحالف الاستراتيجي بين واشنطن والرياض. في حقيقة الأمر، إن مقاربة من هذا القبيل تبدو ناقصة لجهة صوغ فهم أوسع وأعمق لحقيقة ما جرى، وتكتمل الصورة من خلال التوقّف عند ما كشف عنه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، في كلمته بمنتدى الاقتصاد والتعاون العربي مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان، في الرياض في 13 أيار الجاري. استقطبت دعوة الفيصل لنظيره الإيراني لزيارة المملكة بهدف «إنهاء أي خلافات بين البلدين» حسب تعبيره، القدر الأكبر من الاهتمام الإعلامي والشعبي. ولكن الفقرات الأخرى في كلمته حملت مواقف على درجة كبيرة من الأهمية، وتلخّص جوهر الخلاف بين الرياض وواشنطن. وبالرغم من حذاقة الفيصل وقدرته في اللعب بالكلمات والهروب السريع إلى الفضاء العام للحيلولة دون الوقوع في مطب المواقف المحرجة، إلا أن كلمته بدت كما لو أنها مضخة مواقف موتورة، وتتمحور حصرياً حول التحوّل العميق في العلاقة بين واشنطن والرياض. بدأ الفيصل كلمته حول ما يعتبره «تحول السياسية الدولية عن التوازن»، وليست «الدولية» هنا شيئاً آخر غير «الولايات المتحدة». وهو ما اقترب من الإفصاح عنه في الفقرات التالية، حين لفت إلى «دول كبرى كانت على الأقل تعمل وفق مبادئ المنظومة الدولية، وكانت هناك محاولات للتصدي للأزمات الدولية على أساس السعي لخلق مصالح مشتركة يرى فيها الجميع مصلحة له...». شرح هذه الفقرة لا يتطلب جهداً ذهنياً كبيراً، فالدول الكبرى التي يتحدث عنها الفيصل يمكن اختصارها في الولايات المتحدة، والمنظومة الدولية ليست سوى تلك التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وحليفاتها في الشرق الأوسط مثل السعودية ومصر والأردن، والأزمات الدولية هي الأخرى ليست سوى «سوريا وإيران ولبنان والعراق»، والمصالح المشتركة تلك التي تتحقق من خلال العمل المشترك بين أعضاء المنظومة الدولية. فماذا تغيّر؟ يجيب سعود الفيصل بموقف نقدي لواشنطن، وبلغة الإشارة، «لم نكن نسمع من الدول الكبرى مقولة أن سياساتها الخارجية مبنية على المصالح الوطنية فقط، وإنما كان ينظر لتنمية المصالح المشتركة بينها وبين الدول الأقل حجماً، فتغير الوضع من الحرص على سيادة الدول واستقلالها والحرص على أمنها إلى نهج يؤكد أن إصلاح الأوضاع الدولية يكمن في تغيير الأوضاع في هذه الدول من الداخل». وهنا تبدو القضية أكبر من كونها مجرد وجهة نظر، فهو يتحدث عن تحوّل كبير وخطير في الموقف الأميركي، حيث يلفت إلى أن واشنطن لم تعد تكترث بسيادة السعودية ومثيلاتها في المنطقة، من الدول الأقل حجماً، وأن المنهج الجديد يقوم على مطلب التغيير وربط إصلاح الأوضاع الدولية بالإصلاحات السياسية في هذه الدول. ويضيف الفيصل أيضاً: «أصبحت المطالبات بتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية الداخلية من الدول المتقدمة على اعتبار أنهم يمثلون القيم الإنسانية مما يسمح لهم بهذا التدخل، وأصبحت الأزمات عندما تظهر إلى الوجود مجالاً للتسابق على التدخل في الشؤون الداخلية، وما يؤدي إليه من تفكك في المجتمعات...». هنا لا يتردد وزير الخارجية السعودي في توجيه أصابع الاتهام بصورة غير مباشرة إلى تدخّل واشنطن في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، على قاعدة أنها تمثّل القيم الإنسانية التي تبيح لها التدخل لتحقيق مطلب تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية في الدول الأقل حجماً. فلأول مرة يتحدث رجل الديبلوماسية السعودية بمنطق اتهامي لدولة حليفة لبلاده، ويعتبر مطلبها بالإصلاح السياسي في الدول الحليفة، الأقل حجماً، تدخّلاً في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. لم يتنبّه سعود الفيصل إلى ما تقوم به بلاده في دول أخرى مثل سوريا والعراق واليمن والبحرين ولبنان ومصر... أم أن مطلب التغيير وفق المواصفات السعودية يصبح مشروعاً حين يطال الدول الأخرى؟ أما حين يتناول السعودية فإنه «يؤدي إلى تفكيك المجتمعات». على أية حال، حين توضع المقاربة النقدّية للعلاقة مع واشنطن، والرؤية الجديدة لدى الأخيرة حول العلاقة مع الرياض على أساس انتهاج الإصلاح السياسي طريقاً لإصلاح العلاقة مع واشنطن، مع الدعوة التي تقدّم بها الفيصل لنظيره الإيراني نصبح أمام معطى جديد، هو أن فكرة التقارب بين الرياض وطهران تقوم على الهرب من الإصلاحات السياسية التي تراها واشنطن شرطاً لبقاء التحالف، ولسان حال إدارة أوباما لآل سعود: تغيّروا أو ارحلوا.

Copyrights © Znobia.com

المصدر:   http://www.znobia.com/?page=show_det&category_id=13&id=120