وجهات نظر

المقامة التعليمية

أوس أبو عطا- كاتب فلسطيني


بعدما تخرجت من المعهدِ بثبات وحصلت على أعلى الدرجات مضافة لحسن السلوكيات تم تعييني في إحدى القرى المترامية البعيدة النائية فيها أناس لطاف خفاف نظاف , يقدرون الغريب ويجلّون التعليم ويحبون الأدب والأديب , و بعد سنوات طوال في التدريس , ومجاهدة النفس في التمحيص والتفحيص عن أصل كل معلومة , وسهرات في الليل مع زملائي والثرثرة في كل فرصة , والولائم والسمر والنرجيلة والقهقهة , فهم رهط مهذبون طياب , أتى خبر انتقالي لمحافظتي و كان يوماً مميزاً, سجدت فيه لله شكراً , الذي يعقب بعد العسر يسراً , له الفضل والمنة في الليل والظهر والسحر والعصر , فلملمت متاعي و ودعت أترابي بعد طول عناق وعهد بالتواصل بعد الفراق , ثم عينت في ثانوية للبنات فيها مدرّسات حسناوات لا كتلك التي كنت فيها في الريف فلم أشتم فيها رائحة للفتيات والنسوة فيها يطبخن و يغسلن و يرفعن الأكياس الثقيلات و يسرحن الخراف والعنزات ويحلبن البقرات, زنودهن سمراوات وأكفهن أخشن من كف جدتي آيات , ويممت شطري نحو مدرستي مستبشراً ضاحكاً فهي تقع في قريةٍ قرب مدينتي لا كسابقتها التي كنت أقطع لأصلها مئات الكيلومترات ومدرسوها أبناء منطقتي و بالقرب من حارتي, ثم جاء وقت توزيع الدروس , فراعني مدرس كان له بعض الطقوس , يأتي للصف مستعجلاً يتخوف أن يسبقه أحد عليه فهو كأنه على طابور الخبز يعرف الذي له لا الذي عليه , فقلت له باحترام أود أن أناصفك الصفوف العليا لو تتكرم , فتجهم وماعاد ابتسم , وقال في تكبر ,كلا وربك الأكبر هذي الصفوف لي خط أحمر , ثم عاد في اليوم التالي و قال لي بعبوس أتريد المراحل العليا لأجل الدروس , التي ستدر عليك بالفلوس , كلاااا و قابض النفوس تلك الصفوف لن تدوس , ثم توقفت برهة وتوجهت لبوابة المدرسة لأقرأ اسمها فهل هي باسمه أم لدولتنا العتيدة , ثم كررت له نحن ندرس في مدارس دولتنا الحميدة التي تحرص على تكافؤ الفرص لا الواسطات ولا المحسوبيات وهذا الكلام لا يصح يا أخي أبو جمعة , فنظر إلي شزراً وأنا هنا ارتعدت فرائصي وكاد يفلت زمام معدتي , وقال اذهب من هنا لا جمعة ولا خميس هذي الصفوف لي من الآن إلى أن أوضع في الأكفان , وإني أحذرك فأمامي يقفز ألف إبليس وقال أبناء عمي يقفون باب المدرسة وهم سادة العصابات والبلطجة يدعون أنك كنت تفكر بالكلام مع أختهم المدرّسة!!, فما رأيك بهذا يا أيها الأستاذ المقدام ثم صابتني الدهشة المشوبة بالحذر ونشف حلقي وضاع منه الكلام وقلت سأرضى بقسمتي ما من مفر, و تذكرت والدتي المريضة وأبي العجوز وقلت لنفسي اسكت يا هذا أحلامك لاتجوز , ثم بعد أيام جاءت لمدرستنا معلمةٌ متعطرة , أنيقة مقتدرة استحوذت على الصفوف العالية ورأيت صاحبي يجلس في الزاوية كصوص سكب عليه كأس ماء باردة ,فقلت له : مالك ياهذا ..أين القبيلة والقبائل وأين الواسطة والحمائل ؟ فرد بخفوت كأنه يتكلم من بطن حوت , هلا تقاسمني صفوفك الدنيا , فأني أخاف أن أصبح خارج العمل في نهاية المطاف فهذي سنون عجاف , فقبلت بحبور لألقنه درساً في الفضيلة وقلت عسى أن تتسع قليلاً عينه الضيقة ورحت أنشد ويح نفسي إن لم تتصدَّ لكل متفهمنٍ مستكبر يدعي أن عليا المراحل له ويتعالى ولا يقدر فأتته من ردته لحجمهِ كصوص عاد لبيضة تتكسر

Copyrights © Znobia.com

المصدر:   http://www.znobia.com/?page=show_det&category_id=13&id=15304