دراسات

تحديات مرحلة التعافي الإقتصادي في سوريا

وكالة اوقات الشام


في ظل البيئة الدولية المعولمة، لا يمكن أن تنجح عمليات التعافي الاقتصادي وإعادة البناء المستدام من دون منظومة أمن إقليمي. إن الأمن واتفاقيات المصالحات الوطنية شرطان أساسيان لضمان الحد الأدنى من الاستقرار في الدول الخارجة من مرحلة الأزمات والنزاعات والحروب، ولكن لا يمكن لهذين الجانبين معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، مثل التضخم، والبطالة، وانخفاض الإنتاج المحلّي، والفقر، ونقص الخدمات الأساسية. ولذلك، يتبع مرحلة ما بعد الأزمة ما يُسمّى بالمرور بمرحلة التعافي الاقتصادي، التي يتم فيها إعطاء أولوية كبرى للإنتاج، لأنه سوف يؤدي وحده إلى خلق فرص عمل، وخفض تكاليف المعيشة، وزيادة الاعتماد على الذات. ومن شأن الإنتاج الصناعي والزراعي أن يحفّز الارتباطات الاقتصادية السابقة واللاحقة في أي عملية إنتاجية. وإذا ما أُسقط ذلك على الاقتصاد الوطني السوري في مرحلة ما قبل الأزمة، نجد أنه أظهر درجة عالية من الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي والاعتماد على الذات في العديد من المنتجات الزراعية والسلع الصناعية، وبالتالي يجب أن تأخذ سياسات التجارة الخارجية والاستثمار ما بعد الأزمة هذه الميزة الاقتصادية في اعتبارها، وأن تضمن درجة معيّنة من الحماية والدعم للمشاريع والصناعات المحلية الصغيرة والمتوسطة، للوصول إلى مرحلة الإنتاج الاقتصادي كأولوية استراتيجية كبرى. من جانب آخر، إن السمة الأبرز للاقتصاد السياسي الناشئ بعد فترة الأزمة في سوريا أصبحت “اقتصاد النواحي السورية”، وهو اقتصاد لا مركزي منقسم إلى مناطق نفوذ للفواعل الإقليمية والدولية في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، ومنها مناطق في شرق الفرات ما زالت ضمن سيطرة الاحتلال الأميركي، مناطق في شمال وشمال شرق سوريا ضمن سيطرة الاحتلال التركي عبر عمليات عسكرية أُطلق عليها تسميات مختلفة: “درع الفرات”، “غصن الزيتون”، “نبع السلام”، وآخرها “درع الربيع”، مناطق ضمن سيطرة منظمات إرهابية متطرفة في إدلب وعلى علاقة مع تركيا، وبالتالي اختفى التحكم المركزي من قبل الدولة بالاقتصاد الوطني في المناطق الخارجة عن سيطرتها، وهذا ما يشكّل تحدياً رئيسياً لطبيعة الاقتصاد السياسي في مرحلة ما بعد الأزمة وإعادة البناء، ويقع ضمن جهود الحكومة السورية للبدء بمرحلة التعافي الاقتصادي. ورغم استمرار الحرب على سوريا لنحو 9 سنوات وظروفها القاسية، كانت مؤسسات الدولة صمام أمان لمواجهة هذه الظروف. وقد تم تحديد موازنة الدولة للعام 2020 بـــ 4 آلاف مليار ليرة مقارنةً بـــ 3882 ملياراً لموازنة العام 2019. واللافت في موازنة العام 2020 هو فتح الباب واسعاً أمام دعم القطاعات الإنتاجية، وخصوصاً الزراعية، مع التركيز على المشروعات الاستثمارية ذات الأولوية في تحقيق الأمن الغذائي، والتي تنعكس بشكل مباشر على تحسين المستوى المعيشي للمواطن[i]. وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن الحكومة السورية تواجه مجموعة من التحديات الرئيسية خلال مرحلة التعافي وإعادة البناء. ومن أبرز هذه التحديات ما يلي: 1. إن الحرب ما زالت قائمة، وهناك مناطق خارج نطاق سيطرة الدولة السورية، وبالتالي إن الاستعداد العسكري والمجهود الحربي لم يتوقف، وهو ما يُنهك الاقتصاد الوطني السوري. 2. إن المجتمع الدولي منقسم حول انخراطه في عملية التعافي الاقتصادي في سوريا، والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي يرفضان أي مشاركة في عملية إعادة الإعمار وإعادة بناء سوريا. وفضلاً عن العقوبات التي ما زالت قائمة، وتُطبق بحق كل من يتعامل مع الحكومة السورية، هناك مخاطر تطبيق قانون قيصر الأميركي الذي سوف يزيد من العقوبات المفروضة على سوريا. وهناك دول، في المقابل، ما زالت مترددة في المشاركة في إعادة الإعمار، مثل الصين والبرازيل والهند، إذ ترى مخاطر معينة في الاستثمار في بيئة تعاني من أزمات وصراعات إقليمية ودولية. 3. تدهور الظروف المعيشية في سوريا، وازدياد التحديات الاجتماعية والاقتصادية، والتضخّم، وانخفاض قيمة العملة الوطنية. وبحسب مؤشرات المكتب المركزي للإحصاء في دمشق، يشير تقرير المسح الديموغرافي الاجتماعي المتكامل المتعدد الأغراض للعامين 2017 و2018، إلى أن مجموع السكان غير الآمنين غذائياً، والمعرضين لانعدام الأمن الغذائي، يبلغ 66،8%، في حين أن نسبة السكان الآمنين غذائياً تبلغ فقط 33,2%. 4. الاقتصاد السوريّ تم تدميره بشكل ممنهج خلال فترة الأزمة من قبل المجموعات الإرهابية. هذا الأمر جعل الاقتصاد السوري غير قادر على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة. من جهة أخرى، يشير كتاب “حقائق العالم”، الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إلى بعض المؤشرات الاقتصادية في سوريا، ومنها أن نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي تبلغ فقط 20%، والصناعة 19،5%، والخدمات 60،8%، وذلك وفقاً لتقديرات العام 2017. من جانب آخر، تبلغ قيمة الصّادرات السورية للعام 2017 حوالى 1,85 مليار دولار، في حين تبلغ قيمة الواردات 6,279 مليار دولار للعام 2017. هذه المؤشرات تدلّ على اعتماد الاقتصاد السوري بشكل كبير جداً على الخدمات، وتدل أيضاً على كمية العجز الكبير في الميزان التجاري السوري لصالح الواردات. 5. التوترات الأمنية والسياسية في دول الجوار السوري (العراق ولبنان) تؤثر بشكل كبير في الاقتصاد السوري، وخصوصاً لبنان، فنتيجةً للروابط الوثيقة بين الاقتصادين السوري واللبناني، أدت الأزمة اللبنانية المتواصلة إلى تعزيز الاتجاه نحو كارثة اقتصادية في سوريا، إذ لم يكن لبنان منفذاً اقتصادياً لسوريا على العالم فحسب، بل مثَّل أيضاً ممراً لمليارات الدولارات التي دخلت أو خرجت من وإلى سوريا. ولذلك، إن أي هزة مالية تقع في لبنان لا بد من أن يشعر بها الاقتصاد السوري بشكل مباشر، وذلك بسبب حجم الارتباط المعقّد بين حركة النقد والعملات الصعبة في البلدين. الأمن الإقليميّ صمام أمان للمنطقة تتميَّز سوريا بموقعها الجيوسياسي والجيو-اقتصادي كصلة وصل بين القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، ما يجعلها تقع على خطوط التبادل والتجارة والنقل في الاقتصاد الدولي. وتدلّ الاصطفافات الدولية والإقليمية التي تجري في الوقت الحالي في النظام الدولي على حقيقة المواجهة والصراع بين محور القوى البحرية الأميركية والأطلسية، ومن معهم أيضاً في منطقة الشرق الأوسط، كدول الخليج على سبيل المثال. وعلى الطرف الآخر، نجد قوى البر الأوراسي المعادية للتوجهات الأميركية والأطلسية (روسيا، والصين، وإيران، وسوريا، وحركات المقاومة في المنطقة، كحزب الله في لبنان، وحركات المقاومة في العراق واليمن). وبالتالي، إنَّ المشهد الجيوسياسي الحالي في المنطقة يدل على التحليلات السابقة، فالولايات المتحدة الأميركية تعمل على فرض عقوبات اقتصادية على منطقة إقليمية تمتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت، وبالتالي تسعى إلى تجويع شعوب بأكملها. ويوجد بيننا، نحن العرب المقاومين، وبين إيران، ما هو أكثر من مجرد منافع اقتصادية إيجابية، فبسبب الضغط الاقتصادي الأميركي والغربي على الجميع، والَّذي يصل إلى حدّ التجويع والموت، أصبحنا نتشارك مع إيران مصيراً مشتركاً، ويتهدّدنا خطر وجوديّ حقيقيّ واحد. هذا الأمر يفترض تعاوناً عالي المستوى، يكون مقدمةً لاندماج نظام أمن إقليمي بأبعاده كافة (سياسية، اقتصادية، ثقافية، بيئية)، ففي ظل البيئة الدولية المعولمة، لا يمكن أن تنجح عمليات التعافي الاقتصادي وإعادة البناء المستدام من دون منظومة أمن إقليمي. والهدف من هذا الخيار هو ترسيخ التنمية بأبعادها كافة (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية)، وضمن إطار سياسات إقليمية تكفل المصلحة المشتركة في المنطقة. هذا الأمر سوف يؤدي إلى تحقيق هدف أساسي لحكومات الإقليم، يتمثل في انتشال غالبية السكان من مستوى الفقر المتدني، والذي سوف يكون شرطاً ضرورياً لخلق حاضنة شعبية تحمي هذا الخيار وتضحّي من أجله. هذه الرؤية يمكن أن تكون فعّالة إذا شاركت الأيدي العاملة والفقراء في صياغة السياسات الاقتصادية لدول الإقليم، وفي صياغة الأمن المالي والاقتصادي العام، والذي يشكّل جوهر السيادة الإقليمية المستقلّة.  

Copyrights © Znobia.com

المصدر:   http://www.znobia.com/?page=show_det&category_id=12&id=25721